الأربعاء، 26 سبتمبر 2012

في "فقه الاختلاف" أقوال رصعت بالذهب الخالص .



لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ، والعلماء هم ورثة الأنبياء وحملة العلم في كل مكان ، صحيح أن تاريخنا يزخر بالتعصب والتطرف والقتل على الفكرة وعلى الرأي ، ولكن هذا لا يعني اغماض الجفن عن "اشراقات" هذا التاريخ و "ابداعات" العلماء في كافة الفنون والعلوم ، فـ"المبادئ" طالما دونت وأصبحت هدفاً لا يهم بعد أقوام عنها ، لأن سنة التدافع ستصلح ما أفسدته المجتمعات المتخلفة ، وتبقى ملحمة التاريخ منذ الأزل وإلى الآن هي القدرة على الاقتراب من "المبدأ" وتطبيقه فعلياً .
وأنا إذ أدرس الكثير من مباحث التراث والفقه الإسلامي وما كتبه الأئمة في كل زمان ، أتفاجئ بهذا الكم من "المبادئ" الخلقية العالية المستوى والفائقة الانسانية ، وأقارن بينها وبين "أفعال" من يدعون اتباع هؤلاء فأجد الهوة "سحيقة" جداً والفارق كبير كما بين السماء والأرض ، وأتساءل أين يكمن العيب بالضبط حتى نجد كل هذا الكم من التعصب والتطرف وقتل "الاختلاف" ؟
فالقرآن الكريم يقول "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة" ويقول في نفس الآية "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك" و "قولوا للناس حسنا" ويقول النبي صلى الله عليه وسلم "من اجتهد فأصابه فله أجرين ، ومن اخطأ فله أجر واحد" ، ويقول الصحابي أنس " إنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كنا نسافر، فمنا الصائم ومنا المفطر، ومنا المتم ومنا المقصر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، ولا المقصر على المتم، ولا المتم على المقص" .
فالإمام الشافعي يقول "رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" ، ويقول في موضع آخر " ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ" وهو الذي مدح سيد الأئمة أبو حنيفة قائلاً "الناس عيال عند أبي حنيفة" ورغم الخلاف بين الشافعي ومالك في الكثير من المسائل إلا أنه قال "إذا ذكر العلماء فمالك نجم" وقد اختلف هو ويونس الصدفي في مسائل كثيرة ولكن لما لقيه الإمام الشافعي قال له " ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة " والإمام مالك يرفض أن يكون "الموطأ" الذي ألفه طوال أربعين عاماً كتاب المسلمين في الفقه بعد أن عرض عليه هارون الرشيد ذلك قائلاً "إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وعند كل قوم علم، فإذا حملتهم على رأي واحد تكون فتنة" ويقول عمر بن الخطاب "لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد" وقال الإمام يحيى بن سعيد الأنصاري "ما برح أولو الفتوى يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرّم أن المحل هلك لتحليله، ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه" ويقول الخليفة الراشدي السادس عمر بن عبد العزيز " ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن لنا رخصة" ويقول الإمام ابن القيم " العالِم يزِلُّ ولا بُدَّ؛ إذ لَيسَ بمعصومٍ، فلا يجوز قبول كلِّ ما يقوله، ويُنزَّل قوله منزلة قول المعصوم، فهذا الذي ذمَّه كلّ عالِم على وجه الأرض، وحرَّموه، وذمُّوا أهلَه" .
ويقول الإمام الغزالي " إن طالب الحق كناشد ضالة لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه، ويرى رفيقه معينًا لا خصمًا، ويشكره إذا عرَّفه الخطأ أو أظهر له الحق" ويقول سيد قطب أيضاً " إن من طبيعة الناس أن يختلفوا؛ لأن هذا الاختلاف أصل من أصول خلقتهم؛ يحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الأرض" ويقول الإمام محمد الغزالي " اختلاف العقول أمر طبيعي، ومن العسير جمع الناس على مذهب واحد في الفكر والاستنتاج، و هو شيء مستحيل أو قريب من الاستحالة" ويقول الإمام حسن البنا "لنتعاون فيما اتفقنا عليه ، وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه" .
كل تلك "الأقوال" و "المبادئ" تصلح حقيقة كأسس فكرية وفلسفية لـ"فقه الاختلاف" وتؤسس لمجتمع "التنوع" ، صحيح أن الكثير من العلماء قد ضبطوا حدود الاختلاف وحدوها بحدود قد تفرغ هذا المبدأ من مضمونه ، وبعض العلماء قد حددها وقصرها على الفروع دون الأصول ، إلا أن "تعقيد" الحياة التي نعيشها وبروز مفاهيم وأفكار جديدة وتنوع المجتمعات العربية والإسلامية بالكثير من التيارات العرقية والفكرية والسياسية والمذهبية يجبرنا على قبول "الاختلاف" وربطه بـ"التعايش" لا بـ"التعصب" ، فلا يجب ربط الرأي المخالف مهما بلغ شططه وشذوذه بـ"القتل" أو "التحجير" ، لأن ذلك مخالف للفطرة ومخالفٌ للطبيعة البشرية .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق