الأربعاء، 26 سبتمبر 2012

كيف نفهم "الإساءة" للنبي محمد ؟



ربما تشكل حلقات "الإساءة" المتكررة للنبي صلى الله عليه وسلم وللإسلام عموماً إحدى أهم "معوقات" التواصل الإسلامي الغربي ، وأحد أهم الأسباب التي "تؤجج" نار الكراهية في نفوس الشعوب الإسلامية الممتدة في كل بقاع الأرض حتى تلك الجاليات المتواجدة في كل الدول الغربية ، وهذا يدعونا حقاً لإعادة النظر في كل دعوات التواصل والتقارب الحضاري وكذلك النظر إلى قضية "الحرية" وضوابطها ومشكلاتها خاصة فيما يتعلق بـ"مقدسات" الديانات الكبرى .
وحقيقة إن الغرب ليس كلاً واحداً في هذه القضية ، ولا يجب ادانته كاملاً فيما يتعلق بالفيلم المسيء الأخير أو بما سبقه ، ولذلك يجب وضع القضية في نطاقها الصحيح وفهم وضعية المجتمعات الغربية ونظمها السياسية وكيفية تعاملها مع هذه الأحداث وقبل ذلك دواعي بروز مثل هذه الإساءات وظروف تظافرها لكي نستطيع الخروج بعبر موضوعية تمكننا من التعامل "الصحيح" و "الحضاري" مع هذه الأزمة .
فالحرية الفكرية والعقدية والسياسية تشكل أهم مقومات تلك المجتمعات وتصبغها بشكلها الحضاري الذي تفتخر به الحضارة الغربية دائماً ، ولذلك فليس من المستغرب أبداً السماع عن ظواهر شاذة جداً في كل المجالات ، سواء على المستوى الإعلامي أو على المستوى السياسي أو على المستوى الفكري أو حتى على المستوى الجنسي ، والفيلم المسيء الأخير والذي أشرف على انتاجه مجموعة من أقباط المهجر بقيادة موريس صادق لا يخرج عن هذا النطاق ، إذ أنه استغلال لمبدأ الحرية الممنوحة في تلك المجتمعات ، والأمر لا يقتصر على الإسلام فقط بل يتعداه لكافة الديانات والمعتقدات ، ولربما كانت الأفلام المسيئة للمسيحية ولعيسى عليه السلام ولله ذاته أكثر من تلك المسيئة للإسلام ، حتى على مستوى الروايات فمثلاً نجد "شيفرة دافنشي" لمؤلفها دان براون أحدثت هزة في صفوف الطوائف المسيحية حتى وصل الأمر للفاتيكان وصدرت دعوات لمنع طبع الرواية ولكن الأمر قوبل بالرفض بل ووصل الأمر لإنتاج فيلم سينمائي احترافي عن الرواية حصد الكثير من جوائز الأوسكار .
والأمر ينطبق على الفيلم المسيء الأخير وأي دعوة لمنع عرض الفيلم ستقابل بالرفض وذلك نظراً لدعوات مشابهة ، ورغم أن الفيلم سيء الإخراج والتمثيل ، ولربما لو عرض بدون ضجة لما شاهده أحد ولا أظن الذوق السليم يتقبل هكذا مشاهد حتى ذلك الذوق الغربي المتعطش لأحدث الأفلام إحكاماً سواء على مستوى الإخراج أو التمثيل أو الإثارات التلفزيونية .
ولذلك الحل يكمن من خلال الضغط السياسي والقانوني الذي يجب أن تفرضه الجاليات الإسلامية والأنظمة العربية بالتعاون مع الجمعيات الحقوقية لإصدار قوانين تمنع المساس بالمقدسات والرموز الدينية ، أو على الأقل إخضاع تلك الروايات والأفلام لمقص الحقيقة ، فقد يعرض فريق ما فيلماً معيناً يتناول ديانة من الديانات أو شخصية من الشخصيات من وجهة نظره هو وهذا أمر لا يمكن منعه أبداً ، ولكن يجب أن يستند لأبسط بديهيات الحقيقة والروايات التاريخية من مصادرها الأكيدة ، بعيداً عن "التأليف" و "الكذب" و "التدليس" ، وفي حالة المقدرة على اصدار هذه القوانين فسنكون بذلك قد قطعنا الطريق من أوله على كل من تسول له نفسه المساس بأي مقدس ديني وخاصة النبي محمد صلى الله عليه وسلم .
أما المظاهرات العفوية التي خرجت في أكثر من بلد عربي وإسلامي وترجمت لأعمال عنف خطيرة تمثلت في مقتل السفير الأمريكي وثلاثة موظفين في السفارة الأمريكية في ليبيا وكذلك المظاهرات واقتحام السفارة الأمريكية في مصر وتونس وانزال العلم الأمريكي وحرقه ، فيجب أن نفرق بين أحقية "المبدأ" والمتمثل في المظاهرات الغاضبة التي يجب أن تسمعها كل دول العالم ، وبين "العوارض" التي قد تلحق بهذا المبدأ مثل أعمال العنف والتي يجب ادانتها بكل قوة والتصدي لها بكل حزم .
 وحديث الكثيرين عن أن هذه المظاهرات تشوه صورة المسلمين تارة وتعطي قيمة وشهرة للفيلم المنتج تارة أخرى وتمتص طاقات الجماهير المسلمة تارة ثالثة فحديث فيه خطأ كبير ، ذلك أن صورة الإسلام نفسه مشوهة بشكل كبير في العالم الغربي إما بسبب نتاج تاريخ "دموي" بين العالم الإسلامي والعالم الغربي منذ أكثر من ألف سنة ، وإما بسبب الإعلام الغربي الذي يعمل على تشويه الإسلام والعالم الإسلامي والحركات الإسلامية والإعلام كما هو معلوم يشكل أهم المصادر في تشكيل "وعي" و "ثقافة" الشعوب الغربية ، بل إن ردة الفعل الشديدة على الإساءات المتكررة سيفتح الباب واسعاً أمام نخب المجتمعات الغربية للبحث حول جذور هذه المشكلة وفهمها جيداً وبالتأكيد أي محاولة حقيقية وجادة للوصول إلى الحقيقة هي في صالحنا أكثر مما هي في صالح "الأصوات المتطرفة" هنالك ، كما أن القول بأن المظاهرات ستعمل على شهرة "المغمورين" الذين يفتعلون هذه الإساءات ففيه إصابة للحقيقة في جوانب متعددة ، ولكن الحق أن الكثيرين تصدروا المشاهد بسبب "شذوذ" ما يقولون وما يطرحون ، ولو أن إعلامياً بسيطاً في أي بلد دعا لإبادة وطنه لسلطت عليه الأضواء وهذا يرجع للفطرة الإنسانية التي تهتم في كل شيء ، كما ان القانون والمبدأ لا يفرق بين "مغمور" و "مفكر" أو بين "جاهل" و "مثقف" بل ينطبق على الجميع .
والمظاهرات وحالات الغضب والانفعال الشديد يجب استغلالها جيداً وتوجيهها في الاتجاهات التي تفيد الأمة الإسلامية ، فالرد يجب أن يكون في اتجاهين كلٌ منهما يكمل الآخر ، اتجاه يتجه نحو شعوب العالم الإسلامي المتخلفة والتي تجهل أبسط مبادئ دينها واعادة تعريفها وتثقيفها بأمور دينها ، واتجاه ينطلق نحو العالم الغربي واعادة تبليغ الدين الإسلامي بشكله الحضاري والأخلاقي والإنساني لتلك المجتمعات ، فجانب الحرية الواسع هنالك يجب استغلاله جيداً ولقد ترجم هذا الأمر من خلال قيام جمعيات إسلامية بتوزيع الملايين من نسخ القرآن الكريم في بريطانيا والمانيا مع كتب تعريفية بالدين الإسلامي ، وهذا حقاً أجمل رد على تلك الإساءات ، لأن هذه الردود "الحضارية" تستغل حالة "الجهل" و "الاستغراب" الغربي بحجم الغضب على تلك الإساءات وتعطيه المواد التعريفية بالدين الإسلامي في الوقت المناسب ، حيث أنه وبدافع الفضول سيضطر لقراءة الإسلام من وجهة نظر أصحابه ومعتنقيه مما قد يساهم في تخفيف حدة "الكراهية" وكذلك "الجهل" المتجذر في نفوس وعقول تلك المجتمعات حول الإسلام .
أنا ميقن تماماً بان الاحتجاجات ستخمد وستنتهي بعد فترة من الزمن ربما لا تزيد عن أسبوعين أو ثلاثة ، ولكن آثار تلك التظاهرات والتحركات وما نتج عنها من قتل وأعمال عنف سيطرح أسئلة عميقة جداً داخل المجتمعات الغربية كمثل السؤال الذي أرق النخب الثقافية الأمريكية عشية أحداث سبتمبر "لماذا يكرهوننا" ، ولكن هذه المرة سيكون السؤال "لماذا يغضبون" ومسيرة البحث عن الإجابة من وجهة نظري ستكون نقطة ارتكاز مستقبلية في سياسة العالم الغربي حيال الشعوب الإسلامية وما يتعلق بمقدساتها ورموزها التاريخية والدينية .

"الاختلاف" بين فقه التنظير ومسيرة التطبيق



يقول الله تعالى "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين" ومن هذا المنطلق يشكل "الخلاف" و "التنوع الفكري" عصباً مهماً في حياة الكل الإنساني ، ومعيناً مهماً على تحقيق الفلاح الحضاري لكل المجتمعات ، فقياس "حيوية" أي مجتمع تتأتى بقياس مدى "التنوع" الفكري والفلسفي والسياسي والاجتماعي فيه ، ومقدرة المجتمع أو الحضارة على ضبط هذا التنوع وتوجيهه في مساره الصحيح حتى يكون عاملاً من عوامل البناء لا عاملاً من عوامل الهدم والتمزق .
وهذا هو بالضبط حال "مجتمع المدينة" الذي أسسه النبي محمد صلى الله عليه وسلم ، والذي كان يزخر بـ"التنوع" و "الاختلاف" و "الحرية" المجتمعية التي عبر عنها الخليفة السادس عمر بن عبد العزيز "ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن لنا رخصة " ، وصحيح أن شكل الحرية وكذلك الاختلاف لم يكن بذلك التعقيد الذي نعيشه الآن ، ولكن هذا يرجع لطبيعة المجتمع أنذاك وبساطته المعيشية والفكرية ، ولكن "أسس" التعدد وكذلك "فقه الاختلاف" من الممكن الاستدلال عليها إما بآيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية أو بأفعال وتطبيقات الصحابة أو بتراث علماء الأمة الإسلامية .
والمحير في الأمر هو كم "التناقض" بين الفقه النظري وبين المسيرة التطبيقية فيما يتعلق بفقه "الاختلاف" ، فصحيح أن الكل سواء كان هذا الكل "مذهباً" أو "مجتمعاً" أو "طائفة" أو "شخوصاً" يسلم بأهمية "الاختلاف" وبضرورة "تطبيقه" و "احترامه" إلا أن الكثيرين عند التطبيق ينبذون كل المبادئ المتعلقة بهذا الصدد ، والتاريخ الإسلامي ليس استثناءً من هذا المرض ، فمثلاً رغم أن الإمام الشافعي قال مقولته الشهيرة "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غير خطأ يحتمل الصواب" إلا أن أتباعه تشددوا كثيراً في التعصب للمذهب وحاربوا بقية المذاهب بضراوة وخاصة المذهب الحنفي رغم أن الشافعي مدح أبو حنيفة قائلاً "الناس عيال عند أبي حنيفة" ، وكذلك الحال في الخلاف بين الأشاعرة والحنابلة حتى قال أشعري "ما بين شيوخ الحنابلة و بين اليهود إلا خصلة واحدة" والأمر ينسحب على بقية المذاهب والتيارات ، رغم أن رؤوس أو مؤسسي هذه المذاهب كانوا أكثر الناس احتراما لوجهات النظر المختلفة ، فالإمام الشافعي يقول "ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ" وكذلك أحمد بن حنبل كان يقول عن الشافعي "أحب الناس إلي" رغم "الخلاف" الشديد "والتعصب" الممقوت الذي حصل بين أتباع هذه المذاهب الأربعة .
والأمر نفسه حصل مع كبار المجددين وكبار العلماء ليس من قبل أعداء الأمة "الحقيقيين" بل من قبل أبناء الأمة ومذاهبها وعلمائها "المفترضين" فأبو حنيفة أتهم بالإلحاد تارة وبالزندقة تارة أخرى والشافعي أتهم بالتشيع وبالترفض وأحمد بن حنبل اتهم بالتجسيم وقلة العلم ، وكذلك الحال مع ابن حزم والسيوطي وأبو حيان التوحيدي وابن رشد والنسائي والأصفهاني وابن تيمية والذين إما قتلوا أو أحرقت كتبهم أو سجنوا ولوحقت أفكارهم وضيق عليهم كل مضيق .

والأمر لا يتوقف عند حدود هذه المذاهب الأربعة ، بل يتعداها ليصل بقية التيارات الفكرية والعقدية ، بين الأشاعرة والمعتزلة والسلفية وبين الشيعة والسنة وبين الأحزاب السياسية وبين أهل الحديث وأهل الرأي وبين الصوفية والوهابية وهكذا دواليك ، وإن كانت الأمة "تجاوزت" مرحلة التعصب المذهبي بين المذاهب الأربعة لأسباب موضوعية لا داعي لتفصيلها الآن ولكنها لم تتجاوز محطات أخرى مهمة جداً مثل التعصب السني الشيعي والوهابي الصوفي والسلفي والإخواني ، وكل هذه الخلافات التي لم تحترم بعضها وتطرفت في رأيها تسببت في زيادة "التمزق" و "التخلف" الموجود وباعدت بين الأمة ومسيرة "التقدم الحضاري" ، ذلك أن أي أمة في العالم كلما اقتربت من تحقيق فكرة التنوع وأبدعت غي فقه الاختلاف كلما اقتربت من قمة الحضارة أكثر فأكثر والعكس صحيح .
وأخيراً فإن "فقه الاختلاف" مرتبط تماماً بمبادئ وعوامل أخرى ، فعوامل النهضة الفكرية والاجتماعية والدولية مرتبطة ببعضها البعض ، ولا يمكن فصلها عن بعضها ، فالتجديد مثلاً هو ثمرة الاجتهاد ، وفقه الاختلاف هو ثمرة الحرية ، والتقدم التكنلوجي هو ثمرة العلم والهدوء الروحي هو ثمرة التدين ، فالاجتهاد والحرية والتجديد والعلم والدين كلها عوامل مرتبطة ومتظافرة لأبعد حد ، ولا يمكن فصلها عن بعضها ، ذلك أن فصل عامل من هذه العوامل سيتسبب في وجود أمراض خطيرة جداً قد تهدد وجود أي دولة أو جماعة ، فالإختلاف المصحوب بالتسامح يكون عادة "نعمة مشرقة" بينما ذلك الاختلاف المصحوب بـ"التعصب" يكون نقمة مظلمة ، فيجب علينا ان نتعلم كيف "نختلف" مع بعضنا البعض .

في "فقه الاختلاف" أقوال رصعت بالذهب الخالص .



لا يصلح أمر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها ، والعلماء هم ورثة الأنبياء وحملة العلم في كل مكان ، صحيح أن تاريخنا يزخر بالتعصب والتطرف والقتل على الفكرة وعلى الرأي ، ولكن هذا لا يعني اغماض الجفن عن "اشراقات" هذا التاريخ و "ابداعات" العلماء في كافة الفنون والعلوم ، فـ"المبادئ" طالما دونت وأصبحت هدفاً لا يهم بعد أقوام عنها ، لأن سنة التدافع ستصلح ما أفسدته المجتمعات المتخلفة ، وتبقى ملحمة التاريخ منذ الأزل وإلى الآن هي القدرة على الاقتراب من "المبدأ" وتطبيقه فعلياً .
وأنا إذ أدرس الكثير من مباحث التراث والفقه الإسلامي وما كتبه الأئمة في كل زمان ، أتفاجئ بهذا الكم من "المبادئ" الخلقية العالية المستوى والفائقة الانسانية ، وأقارن بينها وبين "أفعال" من يدعون اتباع هؤلاء فأجد الهوة "سحيقة" جداً والفارق كبير كما بين السماء والأرض ، وأتساءل أين يكمن العيب بالضبط حتى نجد كل هذا الكم من التعصب والتطرف وقتل "الاختلاف" ؟
فالقرآن الكريم يقول "ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة" ويقول في نفس الآية "ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك" و "قولوا للناس حسنا" ويقول النبي صلى الله عليه وسلم "من اجتهد فأصابه فله أجرين ، ومن اخطأ فله أجر واحد" ، ويقول الصحابي أنس " إنا معشر أصحاب رسول الله صلى الله عليه و سلم كنا نسافر، فمنا الصائم ومنا المفطر، ومنا المتم ومنا المقصر، فلم يعب الصائم على المفطر، ولا المفطر على الصائم، ولا المقصر على المتم، ولا المتم على المقص" .
فالإمام الشافعي يقول "رأيي صواب يحتمل الخطأ ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" ، ويقول في موضع آخر " ما ناظرت أحداً قط فأحببت أن يخطئ" وهو الذي مدح سيد الأئمة أبو حنيفة قائلاً "الناس عيال عند أبي حنيفة" ورغم الخلاف بين الشافعي ومالك في الكثير من المسائل إلا أنه قال "إذا ذكر العلماء فمالك نجم" وقد اختلف هو ويونس الصدفي في مسائل كثيرة ولكن لما لقيه الإمام الشافعي قال له " ألا يستقيم أن نكون إخواناً وإن لم نتفق في مسألة " والإمام مالك يرفض أن يكون "الموطأ" الذي ألفه طوال أربعين عاماً كتاب المسلمين في الفقه بعد أن عرض عليه هارون الرشيد ذلك قائلاً "إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا في الأمصار، وعند كل قوم علم، فإذا حملتهم على رأي واحد تكون فتنة" ويقول عمر بن الخطاب "لا ينقض الاجتهاد بالاجتهاد" وقال الإمام يحيى بن سعيد الأنصاري "ما برح أولو الفتوى يختلفون، فيحل هذا ويحرم هذا، فلا يرى المحرّم أن المحل هلك لتحليله، ولا يرى المحل أن المحرم هلك لتحريمه" ويقول الخليفة الراشدي السادس عمر بن عبد العزيز " ما يسرني أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يختلفوا، لأنهم لو لم يختلفوا لم تكن لنا رخصة" ويقول الإمام ابن القيم " العالِم يزِلُّ ولا بُدَّ؛ إذ لَيسَ بمعصومٍ، فلا يجوز قبول كلِّ ما يقوله، ويُنزَّل قوله منزلة قول المعصوم، فهذا الذي ذمَّه كلّ عالِم على وجه الأرض، وحرَّموه، وذمُّوا أهلَه" .
ويقول الإمام الغزالي " إن طالب الحق كناشد ضالة لا يفرق بين أن تظهر الضالة على يده أو على يد من يعاونه، ويرى رفيقه معينًا لا خصمًا، ويشكره إذا عرَّفه الخطأ أو أظهر له الحق" ويقول سيد قطب أيضاً " إن من طبيعة الناس أن يختلفوا؛ لأن هذا الاختلاف أصل من أصول خلقتهم؛ يحقق حكمة عليا من استخلاف هذا الكائن في الأرض" ويقول الإمام محمد الغزالي " اختلاف العقول أمر طبيعي، ومن العسير جمع الناس على مذهب واحد في الفكر والاستنتاج، و هو شيء مستحيل أو قريب من الاستحالة" ويقول الإمام حسن البنا "لنتعاون فيما اتفقنا عليه ، وليعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه" .
كل تلك "الأقوال" و "المبادئ" تصلح حقيقة كأسس فكرية وفلسفية لـ"فقه الاختلاف" وتؤسس لمجتمع "التنوع" ، صحيح أن الكثير من العلماء قد ضبطوا حدود الاختلاف وحدوها بحدود قد تفرغ هذا المبدأ من مضمونه ، وبعض العلماء قد حددها وقصرها على الفروع دون الأصول ، إلا أن "تعقيد" الحياة التي نعيشها وبروز مفاهيم وأفكار جديدة وتنوع المجتمعات العربية والإسلامية بالكثير من التيارات العرقية والفكرية والسياسية والمذهبية يجبرنا على قبول "الاختلاف" وربطه بـ"التعايش" لا بـ"التعصب" ، فلا يجب ربط الرأي المخالف مهما بلغ شططه وشذوذه بـ"القتل" أو "التحجير" ، لأن ذلك مخالف للفطرة ومخالفٌ للطبيعة البشرية .